الاحتفالات العالمية التي أحيت ذكرى مرور عشرين عاماً على سقوط جدار برلين، لا تتعلق تماماً بتخليد ولادة الحرية من جديد أو عيش تلك اللحظات المفرحة والمشحونة بالعواطف مجدداً حين انهار نظام قمعي وشاذ. وما على المرء إلا أن يستمع إلى التعليقات التي تعيد سرد أحداث تلك الأيام التاريخية، وسيسمع أيضاً نبرات مبطنة وخفية تشي بالأسف والحنين. أنا هنا لست بصدد الحديث عن الشوق والحنين إلى العيش في ألمانيا الشرقية. فهذا شعور مازال ينتاب بعض سكانها ودولا أخرى من الكتلة الشيوعية السابقة. ورغم ما يثيره ذلك من شعور بالحزن، فلا يفترض أن يكون أمراً مفاجئاً؛ فالكثيرون هناك وجدوا صعوبة في الانتقال من الحياة المملة للشيوعية الشمولية إلى الشعور المخيف بانعدام الأمن الذي تنطوي عليه الرأسمالية الديمقراطية. ما أتحدث عنه هنا هو الشوق والحنين الذي ينتاب الغربيين ممن كانوا ينددون ذات يوم بشر ولاعقلانية ما كان يصفه مروجو البروباجندا في ألمانيا الشرقية بـ"جدار الحماية ضد الفاشية". فرغم كل مقتنا وبغضنا الجماعي لبناء جدارٍ يسجن الناس داخل بلدانهم، فإن ذلك الجدار كان يوفر للغرب شعوراً بالوضوح والتفوق الأخلاقيين اللذين يحنّ إليهما اليوم. كان الجدار رمزاً لانقسام العالم، وقد تطلب منا الإعلان بقوة ووضوح عن الصف الذي نقف فيه أيديولوجياً. وكان يدفع حتى صناديد اليسار إلى البدء في إنشاد السلام الوطني الأميركي. وكان النظر شرقاً من أحد مراكز المراقبة في برلين الغربية بمثابة النظر إلى توأمنا الشرير، وجهاً لوجه، من أجل طمأنة أنفسنا بأننا على الجانب الصحيح. وعندما وصل الرئيس كنيدي إلى برلين الغربية، في السادس والعشرين من يونيو 1963، كان خبراء السياسة الخارجية بالبيت الأبيض قد أعدوا خطاباً متوازناً وغير حاد يعكس شعوراً رسمياً متنامياً بضرورة أن تتعلم القوى الغربية كيف تتعايش مع الشرق الشيوعي في سلام. لكن، وكما يقول المؤرخ البريطاني فريديريك تايلور، ربما يكون التأثير العاطفي لزيارة كنيدي للجدار في وقت سابق من ذلك الصباح، هو الذي ألهمه ودفعه إلى الارتجال وإلقاء خطاب قوي ومناوئ للشيوعية. فإضافة إلى عبارة "أنا برليني" التي قالها بالألمانية مرتجلا، حوّل كنيدي الجدار إلى رمز للتنافر وعدم التطابق والانسجام بين نظامين للاقتصاد وإدارة الحكم. وبالنسبة للأشخاص الذين لم يفهموا الفرق بين الاثنين، قال كنيدي "فليأتوا إلى برلين". وبالطبع، كان جدار برلين خطأً فادحاً في العلاقات العامة بالنسبة لألمانيا الشرقية خاصة، والشيوعية عامة؛ ذلك أن الجدار الذي بني لوقف تدفق ملايين الألمان الشرقيين غرباً، كان إشارة لافتة على اليأس والرفض والإنكار؛ وقد حوَّل برلين الغربية إلى منارة دولية للحرية ومنح العالم الرأسمالي شيئاً ملموساً للالتفاف حوله ودعمه. اليوم، وبعد مرور عشرين عاماً على سقوط الجدار، وفي أعقاب أزمة مالية عالمية، غدا الالتفاف حول الرأسمالية أكثر صعوبة. صحيح أننا في الغرب لدينا أعداؤنا ومعضلاتنا، لكنها ليست بتلك القوة والضخامة، كما لا يمكننا دائماً أن نعتبر أنفسنا أبرياء وبلا ذنب. فاليوم، لم يعد هناك توأم شرير يتصف بالكمال للإشارة إليه بأصبع الاتهام حتى نشعر بالراحة. والحال أنه بدون الانقسام الواضح بيننا وبينهم، فإننا نغفل تلك الحقيقة بخصوص من نحن وماذا نمثل! جريجوري رودريجيز محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"